لم تستطع التجربة السياسية المغربية أن تؤسس ذاتها بعيدا عن القوة والمخزنة، وتكاد أدبيات هذه التجربة أن تعلو على كل التجارب ،في المجال الثقافي والحقوقي والاجتماعي؛ أي أن أوفقير وإدريس البصري والدليمي علامات فارقة في المشهد المغربي، أكثر من الحبابي، المنجرة، الجابري، العروي، الخطيبي، المرنيسي، ولولا فسحة البحث ومتعة الكلمة لما كان لهذه الأسماء من ذكر وصيت، و إن دل هذا الطغيان على أشخا بعينهم، فإنه ينبئ بطبيعة النظام و جبروته، و ما المفهوم الجديد للسلطة إلا محاولة لتجميل هذا النظام، وإقبار وحشية صورته في الذاكرة والمخيال الاجتماعي، بإيعاز من المسار الحقوقي وطنيا و دوليا، ومحاولة لإعادة بناء السلطة بما يتماشى ومنطق العصر، وما يكفل تجذير المشروعية الاجتماعية والسياسية للنظام السياسي برمته .
بني النظام السياسي في إطار قبضة الدولة الصارمة، التي أفضت وبشكل لافت إلى "دولنة" المجتمع بأكمله وفي جميع مجالاته، وتذويب نمط المثقف غير المرغوب فيه،يشكل اختطاف واغتيال المهدي نموذجه الدال، وإرساء ردم وتدمير الثقافة وعسكرتها، وخنق المثقف الحالم، فالنظام السياسي آنذاك ، كان يسعى إلى بناء "السلطة" وليس الدولة، ولم يكن في استعداد لاقتسام السلطة مع أي حزب أو شخص أو مؤسسة.
إن قصة الأجهزة الأمنية في المغرب، هي قصة طغيان إلى درجة الدوس على الصفة الآدمية دون الصفة الإنسانية، و لعل أحداث مارس 1965، و حالة الاستثناء و قصف الريف، وأحداث الدارالبيضاء 1981، وجل المدن المغربية في 1984، وفاس 1991، وأحداث 2007، و2009، 2011و حركة 20 فبراير، إلا دلائل ساطعة على اليد الثقيلة للسلطة، ويكفي ما أنجزته هيئة الإنصاف والمصالحة في تقريرها ما بين 1956 و1999، ومسؤولية الأجهزة الأمنية عن 595 حالة وفاة على أقل تقدير، وما حملته سنوات الرصاص من جرعة زائدة في طريقة وأسلوب وأدوات القمع والترهيب، حيث كانت ماكينات التسلط و الاستبداد توظف في سبيل إنتاج وصناعة الأجساد الطيعة الانضباطية والخنوعة، دون الارتباط بأي قاعدة أو سقف أخلاقي أو إنساني دون القانوني، مما كان يؤشر على آلية اختلاس
واغتصاب الحقوق والاستيلاء على الإنسان والحياة بتعبير ميشيل فوكو، فتحول الأجهزة الأمنية من ضامن للأمن والاستقرار وتكريس سلطة القانون، إلى مرجعية نموذجية للفوضى باسم النظام، كان يؤدي إلى إهدار الطاقة الإنتاجية للنفوس البشرية، ويفضي إلى مزيد من بناء مجال سياسي مهزوز وموبوء، تتحدد وظيفته الأساس في تنغيص الحياة، وتلغيم سبل الإبداع والعطاء، ذلك ما جعل من المغرب وحدة جغرافية وسياسية واجتماعية غير محصنة داخليا، بقدر ما جعلها من الناحية الثقافية والسياسية بؤرة مؤهلة للانفجار في أي لحظة وحين، وإن كان ملمحها الخارجي يوحي بهدوء وسكينة؛ إذ العسكرة المفرطة والإنفاق المتنامي عليها ماديا ورمزيا (اعتبار سلك الأمن وسيلة للترقي الاجتماعي دون الخوف من الأزمات الطارئة) ليست ضمانة للأمن والأمان، وليست تعبيرا عن الأمن القومي في أي بلد من البلدان .
إن الحصيلة التي تقدمها التجربة الأمنية المغربية، وفي علاقتها المباشرة بإنتاج الفرد لا تنفصل عن ثلاث أفكار موجهة لإعادة بناء الذاكرة السياسية والحقوقية والثقافية :
ـ لم يكن الهدف من التعذيب إرساء قواعد العدل والإنصاف، وإنما تثبيت السلطة دون الدولة وإدامة وجودها، بالمعنى الشخصي وليس المؤسساتي وإشعار أفرادها (رعاياها سابقا) بقوتها وديمومتها، والتلويح بالتعذيب باعتباره أرقى وسيلة للدمج والإخضاع القسري.
ـ المتتبع لعمل ونشاط الأجهزة الأمنية بالمغرب، يقتنع بأن هذه الأجهزة لا تخضع لمراقبة الحكومة ولا لمراقبة البرلمان، ولا يمكن للجهاز التنفيذي (الحكومة) ولا للجهاز التشريعي (البرلمان) مساءلة هذه الأجهزة، بحيث لم يسبق في تاريخ المغرب أن عاينا ولو مرة واحدة حضور مدير إدارة التراب الوطني "الديسطي"، أو مدير الإدارة العامة للدراسات والتوثيق "لا دجيد" للبرلمان للقيام بتصريح أو الجواب على أسئلة أو توضيح قضايا تشغل بال النواب في المجال الأمني (إلا حاليا وفي إطار التصريحات أمام الصحافة الوطنية والدولية أثناء تفكيك خلية إرهابية ) .
ـ العنف العمودي الممارس من طرف الدولة، أنتج ثلاثة أصناف من ردود الفعل، إما التكيف والتعايش مع تجاوزات السلطة، أو القبول بالواقع باعتباره أمرا لا مفر منه (الأمن أو الفتنة)، والتمرد والعصيان في ظل عولمة الاحتجاج بإيعاز من الجيل الحقوقي الرابع والثورة المعلوماتية والوسائط المرتبطة بها .
أمام النتائج الحقوقية والسياسية الهزيلة، كان المغرب مطالبا بتحريك الآسن الاجتماعي، والارتقاء بصورته الداخلية والخارجية، من هنا جاء المفهوم الجديد للسلطة، وهيئة الإنصاف والمصالحة بهدف نسج مقومات سلطة سياسية عصرية، ربما الغرض الأساس هو تحقيق السلم الاجتماعي والتخلص من موقع مثقل من شكاوى واحتجاجات المظلومين، بفتح أفق انتظار في المستقبل يتمتع فيه الضحايا بالإنصاف والصفح والاعتراف والتعويض وجبر الضرر، وتدل بنود هذه الهيئة على ضرورة ترشيد الحكامة الأمنية، بتوضيح المسؤولية الحكومية عن عمليات الأمن وضمان شفافيتها، وتحديد المسؤوليات بصددها، وتقوية الرقابة البرلمانية على الأداء الأمني وأجهزته ومسؤوليته ، وتوضيح إطار وشروط استعمال القوة، وتكوين رجال الأمن في مجال ثقافة حقوق الإنسان .
غير أن توصيات هذه الهيئةـ الإنصاف و المصالحةـ وعلى الرغم من إيجابياتها العديدة، إلا أنها غير كافية لإقرار دولة الحق والقانون، التي تعد الضمانة الأساسية لعدم تكرار الانتهاكات الجسيمة مستقبلا؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر لم تحدد الهيئة درجة ومسؤولية الفاعلين الأمنيين والسياسيين والإداريين، علما أن القانون الجنائي المغربي حتى قبل تعديله، ظل دائما لا يوجب فقط على الموظفين العموميين، ووكلاء السلطة والأعوان المؤتمرين بأوامر رؤسائهم، التبليغ بارتكاب الجنايات، أو محاولة ارتكابها، إنما يعاقب على عدم القيام بهذا الواجب، فلم يسبق مثلا أن طبقت هذه الإجراءات على موظفي وأعوان الأجهزة الأمنية والاستخباراتية والدركية والعسكرية، الذين لم يبلغوا عن القضايا الإجرامية، وإنما قاموا بتنفيذها ، وحتى في إطار توصية ربط المسؤولية بالمحاسبة، المؤسسة العسكرية وأجهزة المخابرات منفلتة من وصاية ومسؤولية الحكومة، وهي إلى اليوم خارج دائرة المراقبة الفعلية للمؤسسة التشريعية، على خلاف باقي المؤسسات والقطاعات الحكومية بالرغم من أهمية هذه الأجهزة، ومكانتها المتميزة في الحياة السياسية والاجتماعية للبلاد بدء من احتكار المعلومة ومرورا بضبط التحولات المجتمعية، وانتهاء بترويض الفعل السياسي وموقعته باعتباره تابعا للقرار الأمني على خلاف ماهو معمول به في البلدان الديمقراطية، مما يجعل من منجزات هيئة الإنصاف و المصالحة ـ على أهميتها ـ منجزات حسن النية، والرغبة دون الفعل في تجاوز الميراث الثقيل للملف الحقوقي، مما يفيد هذا الاستنتاج سياق ما بعد توصيات الهيئة بما فيها احتجاجات حركة 20 فبراير المسبوقة باحتجاجات 2004 إلى 2011، وصولا إلى دستور 2011 و هيكلة الجهاز الأمني واحتجاجات ما بعد الوثيقة الدستورية .
شكلت أحداث 11 شتنبر 2001 ،وأحداث 16 ماي 2003، وأحداث مارس 2004، منعطفا حاسما في إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية بالمغرب ، بغرض تقويتها بشريا وتكنولوجيا وماديا، واللافت في هذه السياسة الأمنية القائمة على إعادة هيكلة الحقل الديني، وعلى سياسية أمنية رادعة واستباقية تهتم بهاجس المعلومة، فضلا عن السياسة التشريعية بإصدار قانون الإرهاب 03.03، الذي تمت المصادقة عليه في أجواء ما بعد الضربة الإرهابية في مدة وجيزة، ليتم نشره بعد ذلك في الجريدة الرسمية بسرعة قياسية، وهو ما قد ينبئ بالعودة إلى التسلط خارج المرجعية الحقوقية، ويفتح الباب على مصراعيه أمام الشطط والتأويل الأوحد للمقتضيات الدستورية والقانونية، ويبيح التكييف الأمني للقضية الإرهابية دون التعامل القانوني والتنموي، بضغط من القوى الدولية، لعل ما يدعم ذلك تقرير "ديك مارتي" ( وهو سيناتور سويسري كلف بمهمة القيام بالبحث والتقصي بخصوص المعتقلات السرية المستعملة من طرف الأمريكيين خارج تراب الولايات المتحدة الأمريكية)، والذي أكد قيام عناصر من الأجهزة الأمنية المغربية باستنطاق متهمين بتكليف من المخابرات الأمريكية، وأقر بممارسة التعذيب لاستخراج جملة من الاعترافات.
يكمن السر في استمرار التجاوزات الأمنية، بدافع من الخطر الإرهابي إلى الفلسفة و الثقافة الأمنية التي لا زالت أسيرة إلحاق السياسة و الثقافة و التنمية و المعرفة و العلم بالأساس الأمني ، و تحويل بوصلة الاهتمام من التنمية الفردية و الجماعية القائمة على أساس الاستثمار في العنصر البشري ، إلى تقوية الأجهزة الأمنية بما تعنيه من استقواء على المجتمع ، وتحويله إلى صورة لسياسة الدولة عوض أن تكون الدولة حاضنة للمجتمع ومعبرة عن حاجاته واحتياجاته التنموية؛ فإذا حاولنا مثلا أن نقرأ المكاسب الحقوقية المتأتية من السياق الداخلي لاحتجاجات حركة 20 فبراير، والمحيط الإقليمي للثورة التونسية والمصرية، سنجد أن هذا التفاعل كان بغرض امتصاص الريح الديمقراطية، وتحديث آلية القهر، إذ ينص الفصل 54 من الدستور وظهير 23 فبراير الخاص بتنظيم جهاز الأمن، على إحداث المجلس الأعلى للأمن باعتباره مؤسسة أمنية تسند إليها مهمة وضع استراتيجية (2013 ـ 2017) أنجع قوامه الحكامة الأمنية ذات الاهتمام الوطني والدولي .
إن الصلاحيات التي جاءت بها هذه الوثيقة تجعل الملك بصفته فاعلا في الحياة السياسية صاحب عملية صوغ القرار الأمني على حساب باقي المؤسسات التشريعية والأمنية سواء في المساءلة أو ممارسة الرقابة، أو أنسنة هذه الأجهزة في أساليب ووسائل تقديمها للمجتمع و فعاليته، إذ يظل التمثل جاثما على أن هذه الأجهزة فوق المجتمع و مؤسساته، مما قد يعني أن التنصيص الدستوري لا يعني الضمانة الكافية الكابحة لأي شطط في الممارسة، أو ما سمي بربط المسؤولية بالمحاسبة والإفلات من العقاب، ومما قد يفسر هذا الخوف والتخوف معا، هو الانزلاقات المتوالية لجهاز الأمن، واحتفاظه بالحق المطلق سواء بحل الجمعيات أو إلغاء التجمعات والاحتجاجات، أو في تفسير الحق في الإضراب والاحتجاج والتجمع، انطلاقا من الحركية الاجتماعية قد تفسر بالتواطؤ مع قوى خارجية، أو أنها تعبير عن التمرد، ونستحضر هنا مجمل التدخلات في حق الأساتذة المتدربين، وقمع الاحتجاجات الخاصة بذوي الاحتياجات الخاصة، أو المتعلقة بوثائق ويكيليكس أو خدام الدولة.
أما تعامل الأجهزة الأمنية مع باقي شرائح المجتمع، فما زال مطبوعاً بالتدخل الأرعن مثل ما حدث مع بائعة "البغرير" في القنيطرة، أو فتاة بنجرير حيث لجأتا إلى إحراق نفسيهما احتجاجا على السلطة، أو ما جرى مع محسن فكري بائع السمك في الحسيمة، الذي طحن في شاحنة الأزبال، ناهيك عن باشا منطقة تادلة (صهر ادريس البصري) والذي كانت سلطته تمتد خارج مكتبه الفسيح، وكان يقتحم المنازل بدراجته النارية، أو باشا خنيفرة الذي قص شعر "شيخة" اعتذرت عن إقامة حفلة عيد العرش، والكوميسير ثابت الذي كان يختلس المتعة بكاميراته، ويسجل ما لذ و طاب من الأجساد المتمايلة في الاستحمام .
إن الصور المرصودة أعلاه، وعلى الرغم من طابعها المعزول، تعني أن الايديولوجيا الأمنية تعشش في الأمور البسيطة، وتعكس بنية ذهنية و ثقافية لا زالت ترفل في المفهوم التقليدي للتسلط و السلطة، وإذا كانت هذه الحوادث ومن أهمها حادث محسن فكري بائع السمك قد دفع الأمن إلى تحيين توصية هيئة الإنصاف والمصالحة الخاصة بتكوين رجال الأمن في مجال حقوق الإنسان، وتدريب عناصرها على الحكامة الأمنية، وإشاعة حقوق الإنسان، فإن تحرر المرء من جراحات الذاكرة أو إهانات الذات، ومحن التاريخ، والجرائم الناتجة عن الطغيان والاستبداد مشروط بفتح الفضاء العمومي على قيم الصفح والتسامح والعفو والغفران والرحمة، وتغيير النظرة إلى العملية الاحتجاجية من كونها شكلا من أشكال التمرد على الدولة، إلى اعتبارها نمطا من أنماط الممارسة الحقوقية داخل الدولة، أما تسويق صورة الاستهلاك القائمة على التعددية السياسية والاجتماعية المراقبة والمشلولة على مستوى الفعل والنظر، والديمقراطية المسمومة، فلا يعدو أن يكون إلا إدراجا حضاريا للدولة والمجتمع المرتبط بها في خانة الدول الفاشلة تنمويا وحضاريا .